العواد – العربى عبد الوهاب

قد تخفق الذاكرة عند نهاية العقد الخامس فى تذكر بعض الأمور الضرورية .
على وجه الدقة لم أتمكن من استرجاع ملامح وجه الشاب العوَّاد.
أمس أقام (الملتقى) لقاء ثقافيا عن الثورة .
قدموا خلاله أنواط عديدة لا أذكر منها إلا نوط الشجاعة لأهل الشاب الذى واجه المصفحة فسَّوت بالإسفلت رأسه ، كأن رأسه بطيخة حمراء ، وسقطتْ فجأة .
الآن أذكر كيف اربَّد وجه زوجتى ، لم تتمكن من التحقق ثانية من المشهد .
قالت مشيحة بيدها ، وكانت تغطى وجهها بالدموع ،
قالت فى صيغة آمرة : امسح تلك الصورة من الحاسوب .
قلت لها : لا تقلقى .. هى موجودة فقط على الفيس بوك .
أما نـوطُ المحبة فكان ـ حسب تعبير مقدم الاحتفالية ـ من نصيب الشابة القبطية التى صبَّت الماء ، ليتوضأ الرجل الملتحى .
نـوطٌ آخر لا أذكر بالضبط ماذا أطلق عليه ، تقريبا قال عنه : هذا نـوط التكريم أو نوطُ الاستشهاد . كانت الأنواط تتدحرج على سلم الوقت مثل دحرجة عجلة (فردة) من الكاوتشوك التى دحرجها الطفل صاحب الملامح الشمعية ـ كرغيف خبز شامى ـ
هذا الصباح .
منذ دقائق تقريبا ، كنت متوجها نحو محطة القطار، وكان الطفل يهبط خلف الإطار المتهرئ الذى تدحرج بلا إيقاع ، على سلالم لا تتجاوز سبعا ، تربط رصيف القطار بحرم السكة الحديد الذى يشرف على مبان تدير مصالح الهيئة العامة للفلنكات الحديدية ، أقصد للسك الحديدية .
الذاكرة لم تعد تسعفنى بالمفردات المناسبة .
ويشتمل حرم السكة الحديد أيضا على المساكن الملحقة لكبار الشخصيات.
آ…ه نسيت النوط الذى لم أتذكر اسمه
كما لا أتذكر الآن اسم الشاب صاحب العود الآن .
كان ذلك النوط مقدما للشابة التى بدت فى البداية بشعرها الجميل الهائش الذهبى .
قالوا اسمها : سالى .. سالى عدنان ، سامية العريان ، نعم ، نعم سالى زهران
لا أذكر بالضبط .
قرأت فى المواقع الالكترونية فيما بعد أن أهلها أرسلوا صورةً لها ، وشعرها محتجب بداخل الحجاب ، وجهها دافئٌ لم يزل كرغيف الشمس .. من أشار على التاريخ فى ذاكرة أهلها أن تتبدل الصورة ، ذات الشعر الذهبى الثائر على صفحات الفيس بوك ، كبنت فائقة الأنوثة ، وسط زهور جميلة ، وأجنحة خضراء . ترفرف بالأفكار وارفة الظلال والأمل .
شغلنى أمر تبديل الصورة .
عدة أيام
كان الشاب العوَّاد فى الملتقى الثقافى يغنى ، بينما تهطل الدموع من عينيه على مهل ، كنهر يفيض رقة وجمالا ، قلت لنفسى “الزهور المصرية تفوح روائحها الذكية ، فتنتشى الحكايات ” واضح أنها ألهبت خياله ، فجادت عيناه بالدموع.
عند آخر الاحتفالية ، تعرفت سر بكائه .
قال لى بتأنٍ ، كمن يلتقط آخر أنفاسه : كنت أتمنى يا أستاذ أن أدلى بشهادتى .. أنا نمت فى الميدان عدة ليالٍ ، تقاسمنا البرد والشاى والحكايات (أنا وشاب مسيحى من صعيد مصر)
ونسيت أن آخذ منه رقم هاتفه .. كان فى الليل يغنى لمحبوبة هجرته ، يحكى بلهجة صعيدية دافئة .. حلوة .
توقف ونظر لى ، كان يرسم فى قلبى ملامح جديدة لحياة حقيقية .
وأكمل : ما يؤلمنى حقا .. يا أستاذ ..أننى لا أعرف أين هو الآن .. وهل هو حيى أم ؟؟
لم أره منذ ليلة ( موقعة الجمل) تنسمنا فجر ذلك اليوم ، هواء طريا على نجيلة الميدان ، ناولنى العود الذى كان بجوار رأسه المستندة على حجر الطوار الذى يحمل ألوان الأحمر والأبيض والأسود ..
برقت الدموع ثانية فى عينيه ..
ناديت : يا صاحب العود كفى .
كان يبحث فى أعين الحاضرين عن رفيق الميدان ،
بعد لحظات رفع رأسه الناظرة للبلاط البارد ، وأضاف : كل المقاطع الثورية القصيرة كانت من تأليفه هو ، ومن تلحينى .
الشاب العوَّاد الذى يدرس الموسيقى بمعهد الموسيقى بالقاهرة ، طلبتُ هاتفه ، منحنى إيـاه صافحنى بحرارة .
وافترقنا .
ذلك الصباح مر أمام عينيىَّ ، بشعره الهائش على حواف طاقيته ..
بذات (الكاسكيت) على رأسه .
حين طالعتُ الأرقام الصادرة فى هاتفى الجوال .. لاحظت أن عدة أرقام لم أقم بتسجيلها حتى الآن ، كانت الاحتفالية ساخنة ، ولم أرغب أن تفوتنى فائتة،
ما اسم الشاب العوَّاد ؟؟؟
وأى رقم من هذه الأرقام يخصه .
قفز الطفل وراء الإطار الذى تدحرج على السلالم ، عندما كنت أعتصر الذاكرة بلا جدوى ، توقفت فى الطريق ، أتأمل مستنكراً حالى ، كمن يسترجع شيئا ضروريا سقط منه وسط الزحام . نظرت حولى مخافة أن يرتاب فى وقوفى أحد الشرطيين ، على محطة القطار ، قبيل صعود السلام السبع بأمتار قليلة .
الطفل يدفع الإطار الذى بدأ يدور مسترجعا ذاكرة المسير ..منذ توقفه على مدار عدة قرون ، أو عدة أعوام .. صرتُ لا أذكر .
كما لا أذكر أسماء أصحاب هذه الأرقام .
شغلنى أمر الطفل بوجهه المدور كرغيف خبز.. دارت العجلة وجرى من ورائها طفلٌ لا يتعدى عمره تسعة أعوام .. كنت أتطلع.. وأتساءل : كم دارت على الإسفلت ملايين الدورات قبل أن تتهالك وتنتقل إلى الطريق الترابية فى قدم أتوبيس أصفر قديم .
يدور هنا وهناك ويهتز مترنحاً ، دون توقف .. فقط قدم السائق الحافية فى معظم الأحيان هى التى كانت توقف اندفاعها ، عندما كانت فى يوم ما منتفخة بالهواء ، دائرة باعتداد ؛ بين سيل لا يحصى من السيارات والعربات وأسلاك التليفونات .
عجلة الكاوتشوك دفعتها اليوم يد طفل صغير فهبطت ، نحو ميدان العمل دائرة .
كم مـر نهار ونهار ، فى المساء كانت تتجمع أبواق سيارات مزينة بالأعلام . ، كنت غافيا ، ميتا منذ ألف عام ، كأننى غيرى.
لست من رأى دوران العجلة ، ويد الطفل المدربة وهى تدفعها بقوة نحو الطريق .
لم تحرقنى دموع العوَّاد .
ولم يشغلنى غياب القبطى .. بقدر تهرئ ذاكرتى ، وقوفى هكذا حائرا على أعتاب سلالم سبع .
أشاهد دوران العجلة .
ارتفعتْ وسط ميدان المدينة الأعلام ، وزامرات السيارات التى تصنع هالة من الفرح , والغناء ..الغناء الذى كان محتبسا فى الحلوق ، غناء ينتشى ، يتقافز مثل العجلة ، المفرغة من الهواء ، والولد الطفل يبتسم وهو يمر من جوارى ، هابطا نحو شارع الورش ، تتبعه عيناى ، وأنا صاعد نحو الرصيف ، عابرا النفق باتجاه الأنواط .
أعلنت الأبواق أن حياةً جديدةً حلت ، بقلب المدينة ، وعلى مقربة منهم كانت تنتشر صور عديدة لشهداء لم يحصلوا على أية أنواط ..
ـــــــــــــــــــ